تأملات في زمن: أماتوا فيه
المؤلف ثم أماتوا الناقد !! -3
سناء الحمد بدوي
كان
ملء السمع والبصر يقف إلى منصة المدرج 78 الشهير في كلية الآداب بجامعة القاهرة، في هيبة وأناقة وبصوت ممتلئ النبرات يطل على آلاف من الطلاب وقد ملؤوا مقاعد المدرج الذي كان لا يتسع لكل الطلاب والوافدين من الكليات المجاورة فكانوا يتحلقون حوله ويجلسون جلوسا فوق أرضية المنصة، يحدقون متطلعين إليه مشدوهين بلغته الإنجليزية الطليقة متدفقاً وهو يتحدث عن مدرسة النقد الجديد التي كان عميدها الشاعر والناقد الأمريكي ت س إليوت: 1888 - 1965م كان الدكتور رشاد رشدي أستاذ الأدب الإنجليزي وقتها - أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات الميلادية - يمثل جسرا نابضا ينقل إلى طلابه أحدث المدارس النقدية والأدبية حينئذ مدرسة النقد الجديد
كنا - نحن طلاب كلية الآداب قسم اللغة العربية وآدابها - في ذلك الحين مفتونين بما يلقيه إلينا بالإنجليزية الجذابة الناقد والأديب والاستاذ الذي كان نجما في أفق الأدب والنقد العربي المعاصر كانت تتجاوب في أرجاء القاعة الشهيرة عبارات النقد الجديد التي أتى بها إليوت، من مثل: المعادل الموضوعي ، والعمل الأدبي ، وغيرهما من مصطلحات عميد النقد الانجليزي والامريكي الجديد والذي كنا نقرأ له قصائده الذائعة الصيت: الأرض الخراب ، والرجال الجوف ، ورماد الأربعاء وغيرها من أشعاره ومسرحياته ولم يكن ما تطرحه المدرسة النقدية الجديدة يمنعنا عن تذوق روعة الشعر الإنجليزي الرومانسي الذي كنا ننهل منه مما احتوته المجموعة الانجليزية الشهيرة الكنز الصغير أو الخزينة الصغيرة التي كنا نحرص على اقتنائها، أو يمنعنا من تذوق مسرحيات شيكسبير في لغتها القديمة والتي كانت مقررة علينا وبخاصة و
وفي الوقت ذاته كان قسم اللغة العربية وآدابها يزخر بكبار أساتذة الأدب العربي، من مثل: د شوقي ضيف الذي قدم موسوعة تاريخ الأدب العربي بدءاً من العصر الجاهلي ومروراً بعصر صدر الإسلام فالعصر الأموي والعصر العباسي الأول والثاني فعصر الدويلات وصولاً إلى تقديم دراسات في الأدب الحديث والمعاصر، فضلا عن كشفه عن مواطن الروعة في البلاغة العربية القديمة ودعوته بل وإقدامه على طرح منهج نقدي عربي لتناول أدبنا القديم شعره ونثره من خلال كتابيه الفريدين غير المسبوقين: ·الفن ومذاهبه في الشعر العربي و·الفن ومذاهبه في النثر العربي ؛ ود عبدالحميد يونس رائد ومؤسس الأدب الشعبي بآداب القاهرة؛ والراحل د يوسف خليف صاحب الاسلوب الشعري المتميز في النقد الادبي والذي ودع عالمنا مؤخراً والراحل د عبدالمحسن طه بدر صاحب مدرسة التفسير الاجتماعي والذي اصدر الجزء الاول من كتابه ·نجيب محفوظ: الرؤية والأداة فأغضب صديقه الروائي بسبب الجدية والموضوعية الشديدتين اللتين تحلى بهما منهج الناقد، ود عبدالمنعم تليمة المنظّر العربي للأدب من وجهة النظر الماركسية والذي كان يطرح مفاهيم المادية التاريخية والجدلية المادية، والبناء التحتي - الاقتصادي - الذي يفرز بناءه الفوقي من فلسفة وفكر وأدب وفن، من خلال ما عرف بنظرية الانعكاس وغيرها من طروحات الماركسية في الثقافة والفكر والفن؛ ود حسين نصار، ود جابر عصفور وغيرهم
كنت وقتها - وما زلت - أرى أنه ليس بالضرورة أن يكون كل ما تطرحه هذه المدارس أو النظريات صحيحاً وباقياً على الزمن، بل لا بد أن شيئا منها سيبقى وأشياء ستذهب ويصيبها الذبول وتصبح في قبضة الماضي أثراً بعد عين
وذهب النقد الجديد ولم يعد جديدا، كما ذهبت من قبله الرومانسية وغيرها، وذهبت نظرية الانعكاس الماركسية في الفن والأدب، ولكن شيئاً بقي منها يصلح للاستفادة منه والاستضاءة به
ليت الذين أتوا من بعد هؤلاء واولئك ، يتأملون التاريخ وسياقاته ونواميسه إذ هم ينادون بما ينادون به من نظريات أو مناهج أدبية أو فكرية، ينتزعونها من تربتها الغربية ويسعون إلى غرسها - قسراً - في تربتنا العربية بحماس زائد ينسون معه انه لا كلمة أخيرة في الأدب أو الفن أو الفكر الإنساني، وان ما يتصورونه إنجازا أبدياً لهذه النظرية أو تلك المدرسة إنما هو أمر نسبي لما قبله ولما بعده الذي لا بد أنه آت وهكذا يظل الفكر الإنساني - فلسفة كانت أم أدباً أم فناً أم نقداً - كينونة ناقصة في حالة حركة وتغير لا يكف، كلما سعى الإنسان الى كمالها اكتشف نقصانها وكلما ظن أن ما جاء به عصر هو الأخير تفتقت له حقيقة أن محيط الدائرة لا نهاية له
بدلاً من عشق كل ما ينبت في التربة الغربية هل يترسمون الدرب الذي راده منذ حوالي نصف قرن من الزمان شوقي ضيف حين استلهم من طبيعة تراثنا الشعري النثري منهجاً نقدياً يعاير به خصائصه الفنية والمعنوية


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved