كوسوفا وحرب بلقانية رابعة
د, صالح محمد الخثلان
تفكك الاتحاد اليوغسلافي عام 1991 كشف للعالم عن مناطق وشعوب لم يكن يعرفها من قبل سوى القلة، ولعل اهم تلك المناطق البوسنة والهرسك والتي تعرض المسلمون فيها الذين يمثلون غالبية سكانها لابشع جرائم القتل والتهجير في التاريخ الاوروبي الحديث, وعلى الرغم من ان اتفاق دايتون قد نجح في وقف العدوان الصربي، الا انه فشل في خلق سلام دائم حيث تبقى احتمالات استئناف الحرب قائمة لا يحول دونها سوى ارادة دولية تتمثل في قوات حفظ السلام الدولية التي يعد بقاؤها الضمانة الوحيدة للامن والاستقرار في البوسنة والهرسك, ويصعب حقا التنبؤ بمستقبل الاوضاع هناك بعد خروج القوات الدولية حيث لاتزال الاحقاد الصربية التي غذتها الحرب وكذلك الاطماع الصربية القومية في خلق صربيا الكبرى من خلال مشروع اعادة تجميع الاراضي التي فقدت بلغراد سيطرتها عليها, هذا المشروع التوسعي والمهيمن على عقلية الكثير من القيادات الصربية لن يكون مسلمو البوسنة والهرسك آخر ضحاياه، فالى جانبهم نجد الالبان في كوسوفا والمجريين في فوفودينا وجميعهم يعانون من نزعة التسلط الصربية, اما فوفودينا فهي منطقة تقع في الشمال الشرقي من صربيا وتشترك في الحدود مع المجر ورومانيا والبوسنة وكرواتيا وتبلغ مساحتها حوالي 13 الف كم، ويقطنها اقليةمجرية تعادل ربع السكان وكانت حتى عام 1990 تتمتع بحكم ذاتي داخل صربيا الا انها فقدت ذلك الحق كنتيجة لتزايد التعصب الصربي والذي مثل رد فعل لمسيرة تفكك الاتحاد في نهاية الثمانينات,
اما المنطقة الاهم موضوع هذه الاسطر فهي اقليم كوسوفا الذي يقع في الجنوب الشرقي من صربيا ويشترك في الحدود مع البانيا ومقدونيا وتبلغ مساحته اكثر من 6700كم، ويعيش فيه اكثر من مليونين منهم 90% البان غالبيتهم مسلمون,
وقد استوطن الالبان كوسوفا منذ زمن بعيد الا انها خضعت لحكم المملكة الصربية التي انتهت على يد العثمانيين عام 1389 ومن ثم خضعت للحكم التركي حتى عام 1912 حيث تم ضمها الى صربيا بعد حرب البلقان الاولى، وفي ظل العهد الاشتراكي تمكنت كوسوفا من الحصول على حق الحكم الذاتي والذي كان حلا وسطا حال دون منحها وضع جمهورية اتحادية وهو مطلب سكانها الالبان,
وفي اواخر الثمانينات ونتيجة لتزايد التعصب القومي الصربي فقدت كوسوفا ذلك الحق بقرار صدر عام 1989 حين اعلن سلوبودان ميلوسفيتش القائد الصربي فرض قانون الاحكام العرفية واخضع الاقليم لادارة مباشرة من بلغراد, وقد دعا ميلوسوفيتش الذي استخدم الورقة القومية لتعزيز شعبيته الاقلية الصربية الى البقاء والقتال في كوسوفا والتوقف عن هجرتهم المعاكسة منها بسبب تردي الاحوال الاقتصادية حيث تعد كوسوفا افقر مناطق الاتحاد اليوغسلافي، والى جانب فرض الاحكام العرفية فقد نشرت قوات صربية يتجاوز عددها 40 الف جندي يمثلون قوة احتلال مباشرة كما جرت ملاحقات للناشطين من الالبان واغلقت المؤسسات التعليمية الالبانية وفرضت بلغراد مناهج تعليم صربية، بالاضافة الى تبنيها سياسة توطين للصرب المهاجرين من كرواتيا والبوسنة والهرسك وذلك بهدف تغيير التركيبة السكانية لكوسوفا,
وبالرغم من استمرار السياسات التعسفية ضد الشعب الالباني المسلم الا ان القيادة الالبانية المحلية اكدت على ضرورة تجنب المواجهة والبحث عن حل بالطرق السلمية وذلك بهدف عدم منح بلغراد المبرر لاستخدام القوة العسكرية لقمع المواطنين العزل,
كما نشطت تلك القيادة في بناءمؤسسات حكم وادارة البانية مستقلة عن بلغراد تحت زعامة ابراهيم روجوفا الذي تبنى بشدة المنهج السلمي في التعامل مع صربيا ودعا ابناء شعبه الى التحلي بالصبر,
ولكن يبدو ان هذا الاتجاه السلمي قد بدأ مؤخرا يفقد جاذبيته بين بعض الشباب الالبان الذين يرون في المواجهة المسلحة الطريق الوحيد للتخلص من الهيمنة الصربية,
وقد شهدت كوسوفا مؤخرا تزايد اعمال تخريب للمنشآت وقتل للمسؤولين المحليين المتهمين بالتعاون مع بلغراد تلقي مسؤوليتها على جيش تحرير كوسوفا السري,, وتشير التقارير الى ان اعمال الجيش السري تلقى تأييدا متزايدا بين الطلاب الالبان الذين صعدوا مؤخرا من نشاطاتهم الاحتجاجية على بلغراد,
في المقابل فان صربيا لا تبدو مستعدة حتى لاعادة حق الحكم الذاتي للمنطقة فضلا عن منحها الاستقلال الكامل وهو ما يبدو خيارا مستحيلا نظرا للاهمية التاريخية والدينية التي تتمتع بها كوسوفا في الذاكرة الصربية حيث نلاحظ اجماعا بين مختلف الاحزاب والتنظيمات الصربية في الموقف تجاه الاقليم وضرورة التمسك به، وقد اكدت القيادات العسكرية الصربية العليا قبل اسابيع ان الوضع في كوسوفا يعد اهم اولوياتها وقد يكون ذلك رد فعل على اعلان منسوب الى جيش تحرير كوسوفا في بداية الشهر بان معركة الكفاح المسلح ضد السلطات الصربية قد بدأت بالفعل,
ومن ثم فان التدهور الراهن للاوضاع والناجم عن التعسف الصربي قد يتسبب في حدوث مواجهات عسكرية قد يتورط فيها عدد من الدول ومن بينها البانيا التي اكدت قيادتها تاريخيا على ضرورة اللجوء للوسائل السلمية التي تحافظ على وحدة الاراضي الصربية وتحقق للالبان مطالبهم الشرعية,, وقد يتغير هذا الموقف الالباني المعتدل في حال استمرار سياسة القمع الصربية, كما قد تتورط في الحرب المحتملة مقدونيا المجاورة حيث يوجد اقلية البانية نشطة يصل عددها الى اكثر من 30% من السكان,
والحرب اذا نشبت فلن تقل شراسة عما حدث في البوسنة حيث تحمل الحركة القومية الصربية المتطرفة حقدا دفينا ضد مسلمي المنطقة على مختلف انتماءاتهم العرقية، ولكن يبقى السؤال حول قدرة قيادات الدول الاسلامية في انقاذ اخوانهم الالبان من ذلك المصير المشؤوم ونقول بان القدرة وبالرغم من محدوديتها الا انها تظل موجودة وتتمثل في تبني قضيتهم في المؤسسات والمحافل الدولية، وكذلك ممارسة حكومات تلك الدول الاسلامية التي ترتبط بعلاقات دبلوماسية مع صربيا الضغط غير المباشر على بلغراد للبدء في البحث الجاد عن حل سلمي يحفظ للجميع حقوقهم ويضع نهاية لمعاناة المواطنين الالبان في كوسوفا ان هذه الاسطر لاتهدف لاستثارة العواطف والحماس بقدر ما تعكس رغبة في التعريف وكذلك ايمانا بأهمية عامل الوقت وضرورة البحث عن الحلول الوقائية التي تحول دون مواجهات يكون الانسان البريء ضحيتها الاولى، وفي الختام اجدها مناسبة للدعوة للنظر في ترشيد مساعداتنا لمسلمي البوسنة والهرسك وذلك خشية من ألا تساهم تلك المساعدات في تهيئتهم وخصوصا الاجيال الجديدة منهم للعيش في دولة متعددة الاديان وتخضع لنظام حكم علماني الطابع بموجب اتفاق دايتون,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved