بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1991 نشر الكثير من الكتابات التي تحذر من فراغ سياسي ايدلوجي في آسيا الوسطى قد تسعى قوى اقليمية الى ملئه, لقد اكتظت وسائل الاعلام باطروحات حول تنافس ايراني - تركي لاستغلال ذلك الفراغ من اجل تحقيق نفوذ يعوّض لايران ما فقدته في الخليج العربي ولتركيا تراجع مكانتها بعد انتهاء الحرب الباردة، بالاضافة الى مساعٍ صينية وهندية للمشاركة في تلك اللعبة الاقليمية لاقتطاف بعض من العوائد السياسية والاقتصادية والعسكرية المرجوة, وقد عزز تلك التحذيرات نشاط تركي ايراني محموم لجعل آسيا الوسطى منطقة عمق استراتيجي او حديقة خلفية حسب التعبير الامريكي، واتسم ذلك النشاط بشموليته وتنوعه حيث تنافست طهران وانقرة على تقديم المساعدات المالية وتوفير المنح التعليمية وبث البرامج التلفزيونية والدخول في مشاريع اقتصادية لاستثمار ثروات آسيا الوسطى من النفط والغاز, لقد صورت التغطية الاعلامية المكثفة لتلك الانشطة والمشاريع وخاصة خلال السنوات الاولى من استقلال الجمهوريات الآسيوية، صورت آسيا الوسطى كمنطقة فراغ تام خالية من مقومات القيادة الذاتية, لقد قدمتها للعالم في شكل الكائن الكسيح المحتاج لمن يرشده ويساعده على الخروج من ازمته التي سببها الانهيار وفقدان الأخ الروسي الكبير الذي قادها لأكثر من سبعين عاما وسمعنا وقرأنا عن حاجة طشقند وعشقد اباد والمآتا ودوشنبيه وبشكيك الى نماذج للحكم والادارة تكون بديلة عن قيادة الكرملين وظهر الحديث عن نموذج تركي وايراني وكوري وسعودي يمكن لشعوب آسيا الوسطى الاختيار بينها وتبني احداها لمساعدتها على تجاوز معاناتهم التي يعيشونها,
ورغم ان موضوع الاختيار بين هذه النماذج قد اصبح شيئا من الماضي منذ اربع سنوات تقريبا، الا ان الافتراض الذي يعكسه ويتمثل في ان آسيا الوسطى تفتقد القدرة على القيادة الذاتية لا يزال قائما حتى اليوم ويؤثر في تصورات الكثير من المراقبين والدارسين, ولعل احد اهم الاسباب التي ساهمت في خلق هذا الافتراض وترويجه يعود الى ما يسمى بالدراسات السوفيتية )سوفيتولوجي( التي انتجتها الجامعات ومراكز البحث الغربية والتي قصرت اهتمامها على موسكو حيث مركز القرار وتجاهلت الجمهوريات والاقاليم التي صورتها في شكل تابع ومتلقٍ للأوامر والتوجيهات الصادرة من الكرملين الذي تهيمن عليه النخبة السياسية الروسية, وكما اظهرت الدراسات اللاحقة فلم تكن العلاقة بين موسكووالجمهوريات او حتى الاقاليم ذات الحكم الذاتي علاقة ذات اتجاه واحد بين مركز متحكم واطراف محكومة بل كانت العلاقة اكثر تعقيدا ويشكلها تداخل وتبادل بين الكرملين والقيادات المحلية في الجمهوريات والاقاليم وكثيرا ما استجابت موسكو لرغبات العواصم الاقليمية, ويكفي ان نشير في هذا المجال الى شرف رشيدوف السكرتير الأول للحزب في اوزباكستان الذي استمر في منصبه حتى وفاته عام 1983 وحكم اكثر من ثلاثين عاما لعب خلالها دوراً مؤثراً في شؤون جمهوريته وعلاقتها بموسكو,
واليوم نجد ان اوزباكستان المستقلة ليست موضوعا لتنافس وصراع اجنبي كما تصور ذلك الكثير من وسائل الاعلام بل هي طرف فاعل ومهم في جميع التفاعلات الاقليمية والدولية ذات العلاقة ليس فقط بآسيا الوسطى بل حتى بالقوقاز وباقي المحيط الجغرافي داخل وخارج رابطة الدول المستقلة, ونجد تأكيدا لذلك في الدور الهام الذي تلعبه طشقند في القضية الافغانية التي تستوجب تداعياتها المحتملة ليس فقط على امن اوزباكستان بل على أمن آسيا الوسطى ككل ان تحظى القيادة الاوزبكية بمشاركة فعالة في حل تلك القضية ووضع حد لصراع قيادات الحرب الافغانية, كما تلعب طشقند دوراً مميزاً داخل رابطة الدول المستقلة حيث تعمل على خلق توازنات بين دول الرابطة تحول دون هيمنة روسيا، ونشير في هذا الشأن الى مساعي التكامل بين اوزباكستان وباقي دول آسيا الوسطى وكذلك الى التنسيق بينها وبين اوكرانيا واذربيجان والتي تلتقي جميعها على مصلحة مشتركة تتمثل في الوقوف ضد محاولات موسكو فرض نفوذها الذي فقدته عام 1991 , كما ان اوزباكستان تعد طرفاً رئيساً في الصراع الطاجيكي حيث ساهمت طشقند في جهود التسوية الاخيرة وذلك لقناعة القيادة الأوزبكية ان استمرار الصراع في طاجيكستان يشكل تهديدا للأمن والاستقرار في آسيا الوسطى والمناطق المجاورة, كما ان حقيقة التداخل الجغرافي والسكاني بين اوزباكستان وطاجيكستان حيث يعيش ما يقارب 25% من الاوزبك سيحتم استمرار المشاركة الاوزبكية في اللعبة السياسية الداخلية لطاجيكستان لسنوات قادمة,
إذاً وعلى الرغم من ان اوزباكستان لاتزال تعيش الكثير من الصعوبات الاقتصادية الناجمة عن انهيار الاتحاد السوفيتي الا ان ذلك لم يحل دون ان تمارس سياسة خارجية نشطة على المستويين الاقليمي والدولي وقد بدأت الكثير من الدول تعترف بأهمية الدور الأوزبكي وتأخذ مواقف طشقند بعين الاعتبار، ونشير في هذا الجانب الى التغير الذي شهدته السياسة الامريكية تجاه اوزباكستان حيث بدأت واشنطن في السنوات الاخيرة تقدير مكانة اوزباكستان في آسيا الوسطى، وكان لذلك تأثيره على ازالة الكثير من التحفظات الامريكية على الشؤون السياسية الداخلية لاوزباكستان والقبول بالاستراتيجية التي تبنتها طشقند والمتمثلة في تفضيل خيار الاستقرار على الاصلاح والتغير السريع,
ان المكانة الاقليمية المتميزة التي تحظى بها اوزباكستان لم تأت من فراغ بل هي حصيلة مجموعة من الخصائص التي تتمتع بها ولعل من اهمها: حجمها السكاني فهي اكبر دول المنطقة سكانيا حيث يتجاوز مجموع سكانها 22 مليون نسمة، كما انها تتمتع بموقع استراتيجي حيث تقع في قلب آسيا الوسطى، بالاضافة الى احتواء اراضيها اهم المراكز الحضرية التاريخية ومنها طشقند وسمرقند وبخارى التي احتفلت مؤخرا بمرور 2500 عام على تأسيسها، وأخيرا تتوفر لاوزباكستان نخب ثقافية وعلمية كبيرة نسبيا مقارنة بباقي الجمهوريات الاسلامية, من هنا فلن نكون مبالغين اذا قلنا ان الدخول الى آسيا الوسطى يمر عبر بوابة طشقند التي علينا تعزيز علاقتنا معها وتجنب ما قد يتسبب في برودها, واشير بشكل خاص الى بعض الانشطة التي تمارسها عدد من المؤسسات من منطلق حسن النية في مساعدة مسلمي المنطقة، إلا ان تلك الانشطة تواجه بحساسية مفرطة من قبل القيادة السياسية الاوزبكية التي تخشى من تداعياتها السياسية المستقبلية,